7 دروس تعلمناها من شباب ثورة التحرير/ عبد الرحمن الأبنودي
شاعر مصري
تمنيت المشاركة في مظاهرة أو حدث كما أتمنى الآن.
كتبت قصيدة «الميدان» يوم جمعة الغضب، وبيضتها السبت. الشاعر والمواطن ومثلي مثل الجميع، عشنا حياتنا كلها لكي نرى يوما مشابها. قلت يوما في قصيدة:
خايف أموت
من غير ما أشوف
تغير الوشوش
وتغير الصنوف
والمحدوفين ورا
متبسمين في أول الصفوف
أعرف مناضلين عظاما أمضوا حياتهم في السجن وتعبوا وماتوا فقراء ولم يحققوا شيئا، ولم يشاهدوا معنا هذا اليوم:
خايف أموت وتموت معايا الفكرة
لا ينتصر كل اللي حبيته
ولا ينهزم كل اللي كنت أكره
أتخيلوا الحسرة!
حسرة أولئك الذين أضاعوا حياتهم بلا طائل في السجون والقهر، مناضلون شرفاء ونبلاء قابلتهم في السجن، ولم يحققوا شيئا سوى أننا استمعنا إليهم، كما أن غيرنا استمع إلينا أيضا.
أنا في شيخوختي الآن أعيش أسعد أيامي، وهؤلاء الشباب أعطوني هدية لا تقدر بثمن. وقصيدتي «الميدان» نوع من رد الجميل الضئيل جدا لما أعطوه لنا فكريا ونفسيا وروحيا، اسمح لي من خلال «الشروق» أشكرهم.
1- ضحكت علينا الكتب
وبيسرقوك يا الوطن قدامنا عيني عينك
ينده بقوة الوطن ويقول لي قوم فينك
ضحكت علينا الكتب بعدت بينا عنك
لولا ولادنا اللي قاموا يسددوا دينك
حرية الكاتب يخلقها بنفسه.
فى زمن ناصر سجنت مع جيل الستينيات، لكن أنا دائما أفرق بين الذاتي والموضوعي بين الخاص والعام، لكن سجني لا يعميني، لأن الهدف دائما مصر، عيني على مصر وليس على عبدالرحمن الأبنودي ولا غيره. كلنا أفراد، والتاريخ لن يذكر هذه التفاصيل، سيرميها، لا أدين سجني، ولم أكن مخطئا.
كان عبد الناصر فوقيا، وكان كل همنا نجره إلى تحت. وكان بيننا وبينه أجهزة عازلة، وكان كل همنا أن تزاح هذه الأجهزة، بحيث لا تمشى ووراءك مخبر اليوم كله.
أنا وطني، لما تسجني، أمال حتسيب مين؟
قرأنا الكتب، ونعرف أن الثورة لا تقوم إلا من خلال تنظيم قوي، مرتبط ارتباطا بالجماهير، ومتغلغل في الواقع...إلخ.
هذه هي الكتب.
هذا ما قاله لينين ومن مشينا وراءهم، ثم اكتشفنا فيما بعد أن الناس تمزع هدومها، يفيض بيها فتثور من غير حزب ولا حسنين.
2- طوفان يولد في السر
الثورة فيضان قديم محبوس ما شافوش زول
الثورة لو جد ما تبانش فى كلام أو قول
تحلب وتعجن فى سرية تفور فى القلب
وتنغزل فتلة فتلة في ضمير النول
فى السنوات الأخيرة لاحظنا ذبول الأحزاب. كل حزب تحول إلى شخص وجريدة، وعلاقات مع الدولة مريبة سرية وعلنية، وانخراط في أجهزة الدولة، إلى أن بزغ هذا.
الشباب كانوا يراقبون الحالة، ولو كان هناك أحزاب حقيقية كان الشباب انخرط فيها، لكن الشباب الذي بقى على قيد الوعي والحيوية، انصرف عن الأحزاب وانخرط في 6 أبريل وكفاية والحملات الشعبية الأخرى.
إنهم شباب بلا لافتات سياسية.
دي حاجة جميلة، لكن قد نخاف أن ينفصلوا عن تجارب الماضي، العواجيز مش دايما وحشين ومعوقين، ولكن لديهم تكدس خبرات أيضا، أنا واحد من هؤلاء القدامى وأتعاطف مع الشباب كأني واحد منهم، السؤال هو هل هناك ثمة قدرة للأجيال القديمة للانخراط في هذا الحماس الطازج؟
أعتقد أن مشكلة الجيل السابق هي في كم الضربات واليأس والخلافات والفراغ وعدم الإمساك بحقائق الواقع.
3- إزاي نحب الوطن
إحنا وراهم أساتذة خايبة تتعلم
إزاي نحب الوطن وامتى نتكلم
لما طال الصدى قلبنا ويأسنا من فتحه
قلب الوطن قبلكم كان خاوي ومضلم
هذا درس أربك القوانين الثابتة في رؤوسنا والأفكار التي تكلست والواقع يتغير ونحن لا نطور ما تعلمناه.
تجربة تونس هي تقريبا نفس التجربة المصرية من حيث اللا-قانون، الناس قامت لأه، ما نعرفش امتى تقوم تقول لأه: لقمة وقفت في زورها، كلمة ما رضيتش تتبلع، شيء حصل والناس قالت لأ.
شاب صغير قتل في القصاصين، رحت بلدة القصاصين دي أنا وعمك سيد الضوى، وقلنا مع الناس السيرة الهلالية، أنا معروف يى تونس وعارف بلدهم ولهجتهم، لأني عشت أوقاتا طويلة هناك. لكنني لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن الإنسان التونسي، المهروس من الممكن أن تدب فيه الحياة مرة أخرى.
أملي بالنسبة لمصر كان فيه إمكانية إن الإنسان المصري يثور، المصري برقدته التي تشبه رقدة الجمل. لكن التونسي كان مسحوقا، لم يتركوا له فرصة للتنفس.
احنا كنا نغيب ونهب هبة كدا، يناير 1977، الأمن المركزي، صحف معارضة، وقوف على سلم النقابة، إنما فى تونس أبدا، لم يسمحوا للإنسان التونسي بهذا أبدا. لكن في السنوات الأخيرة لاحظت أن الناس بقت «مستبيعة»، لم تعد تلتفت خلفها، المثقفون بدأت تدب فيهم روح قتال عجيبة.
فجأة تحول التراكم الكمي إلى كيفي كما نعرف.
4- شباب بلا لافتات
شباب كان الميدان أهله وعنوانه
ولا في الميدان نسكافيه ولا كابتشينو
خدوده عرفوا جمال النوم على الأسفلت
والموت عارفهم قوى وهما عارفينه
كنا فقدنا الأمل في شباب مصر.
أمريكا تحاول أن تصوغ أبناء الشعوب على هوى الغرب لتجعل منهم مادة قابلة للتحريك والتجاوز، تعبث بهم عبثا شديدا. قطاعات كبيرة تستخدم الإنترنت والفيسبوك، ولكن لا ترى ما يحدث فى مصر الآن، منصرفة إلى أفلام وكرة ومسابقات، ودول سينضمون إلى الشباب الذي يقود الآن.
في ثورة 1919 كان هناك شباب، لكن الكبار كانوا يقودون، أما الآن فالكبار يبحثون عن منفذ يدخلون منه للاستيلاء على ثورة الشباب.
الشباب صادق جدا فى ثورته، وقابل للتضحية، وأنت تراهم مصابين اللي رابط عينه، والمكسور ذراعه، بضمادات بدائية في داخل الميدان، لكن تجد صاحب هذه الضمادة يحمل كيس قمامة وينظف الميدان باليد الأخرى.
ثمة شيء جميل يعبر عن الروح المصرية الحقيقية اللي طول عمرنا تغنى بها وكأننا بلهاء، لأن الناس لا تجدها فى الواقع، بالذات الأجيال الجديدة.
لقد جاء الشباب إلى العالم ومصر علاقتها بالعدو أقوى
رأيت أجيالا رافضة لسلطاتها وحكوماتها ومستوعبة وتعرف أنها ليست بمفردها في الثورة أو الميدان، دعني أتحدث عن الميدان باعتباره الثورة، رغم وجود «ميدان تحرير» في كل مدينة مصرية تقريبا.
أخاف عليهم لأنهم بلا لافتات سياسية، أخاف طبعا، لكنني أرى أنهم مبصرون، واثق من ذلك.
لا أخاف على شباب التحرير، ولا يمكن للنظام أن يعتدي عليهم، فالدنيا كلها تعرف ماذا يدور في ميدان التحرير، العالم كله معنا، ويتابع ليرى ماذا سيحدث?.
5- «عواجيز» وأحزاب
فينك يا صبح الكرامة لما البشر هانوا
وأهل مصر الأصيلة، اتخانوا واتهانوا
بنشترى العزة تاني والتمن غالي
فتح الوطن للجميع قلبوا وأحضانه
يأتي بعد ذلك عواجيز الفرح، أمثالنا الذين ناضلوا كثيرا ولم يفلحوا، واضح أن هناك محاولة للقفز على الظاهرة والبحث عن مكان، وليته مكان للتعلم وللتسول واستحلاب روح الشباب، لأ، دا أنت تريد أن تفرض عليهم «عجَزك»، كهولتك الفكرية، أمثالنا وأمثال الإخوان، أولئك الذين لم يجدوا بابا للدخول إلى واقع السياسة العلني، وجدوها فرصة في هذا المكان.
من الذي ذهب للتفاهم مع الدولة؟
إنها القوى القديمة، والمعارضة التقليدية اللي جابوا لنا الكافية، واللي أبطلوا النضال الحقيقى.
لأن النضالات القديمة قامت على كراهية الآخر، الإخوان يكرهون التقدميين، والتقدميون يكرهونهم.
أيام ثورة فيتنام، كان البوذي المتدين يحرق نفسه في الميدان دفاعا عن ثورة هي شيوعية، الحزب الشيوعي كان يقود، لكن كان هناك تحالف عجيب بين الدين والتقدمية وكافة القوى المختلفة فكريا، لكن الكل متوحد على حب الوطن.
المعارضة القديمة هنا ليست كذلك، الإخوان أو الشيوعيون أو الناصريون، كل هذه الفرق في حالة رفض للآخر، لكن الشباب ليسوا كذلك، لأنهم ما عندهمش تنظيمات ولا لوائح وخط سياسي يجبر كل واحد إنه يهرش مناخيره من هذا الجانب وليس من الجانب الآخر، تجده كل من معي فهو معي حتى يفرز الواقع من الباقي بجواري، ومن سينصرف أو يُهزم.
حتى من ذهب للتفاوض مع الدولة، الشباب يقولون إن هؤلاء لا يعبرون عنا ولا يمثلوننا، لا يرفضون فكرة أن يذهب آخرون للتفاوض، ولا يمارسون العداء ضدهم.
هم يعرفون أنها أحزاب مأزومة، وما صدقت تلاقي فرصة تقول إنه على قيد الحياة، لكن من هم على قيد الحياة لم يغادروا ميدانهم.
6- مناورات النظام
قلنا فيه لسه الجولة ورا جولة
دا سوس بينخر يا ابويا في جسد دولة
ايوة الملك صار كتابة انما ابدا
لو غفلت عنينا لحظة يقلبوا العملة
الدولة ترتعد من هذه الظاهرة الحقيقية، لكنها تحاول الالتفاف عليها.
أولا: يلعبون لعبة الوقت، بإطالة مدة التحاور والتناوش ممكن الناس تتعب وتنصرف.
النظام يحاول أن يضرب الناس بالناس، بالرشوة والأساليب التي كان يدير بها الانتخابات السابقة.
ثانيا: فكرة الاختراعات القانونية والتشريعية في كل لحظة ليثبتوا أنهم لن يغادروا.
ثالثا إذا غادر الرئيس كيف ستذهب هذه الطبقة الدهنية، وكل هذه الفئات التي تكسو مصر، إداريا وتشريعيا إلخ، كيف نتخلص منهم أو نغيرهم؟
لقد أفسدوا كل شيء، والآن تجد من يقول إن الناس تعبت، وعلى سكان الميدان أن يغادروا لكي ترى الناس مصالحها. مازال الإعلام في يد الدولة، وهناك حالة من الالتفاف والتحايل، وقدامى النظام أذكياء وخبراء في المداورة والمناورة، أصبحوا خبراء. وهم يفصصون الآن الدستور، اكتشفنا أنهم ليس فقط أذكياء، دا شغل شياطين. كيف أحكموا القبضة بحيث إنه لا يمكن فكهم، ولا فك السلاسل التشريعية والقانونية التي عملوها من زمن.
مش يرحل مبارك يبقى القضية خلصت، ولا استقالة جمال مبارك وصفوت الشريف. تلك تفاصيل تلهينا عن الأهم، هناك طبقة كاملة، وليس معنى التحقيق مع أربعة أو خمسة من المسئولين السابقين أنك تنظف الطبقة من فسادها، فالفساد لا يخص بعض الوزراء، بل فساد النظام السياسي من أوله لآخره.
ثم إنك لا تملك الجيش المنظم لتحقيق ذلك، نرجع لقضية الحزب السياسي. ليس لديك ذلك الحزب الجماهيري المنظم المقاتل الذي يستطيع أن يقتلع هذه الطبقة من جذورها.
7- الخطر الكبير جدا
ما تخافش على مصر يابا مصر محروسة
حتى من التهمة دي اللي فينا مدسوسة
ولو انت ابوها بصحيح وخايف عليها قوى
تركتها ليه بدن بتنخره السوسة
في النهاية جهاز البوليس كله، الأجهزة الأمنية مش بتاعتك، مش انت اللي عاملها، ولا من نظم كل هذه القوى ضد الناس، أنت الآن الناس، وتريد أن تستعيد حقك، وبينك وبين حقك كل هؤلاء.
وكل ما استولوا عليه، هل يمكن أن تستردها؟ وما القوة التي تمتلكها باسترداد مدينتي ومارينا ودارينا وسارينا؟
نسأل الكتب أم ميدان التحرير؟.
لا الميدان ولا الكتب، بل يجب أن يجلس ثوار الميدان مع قدامى الوطنيين والمخلصين منهم والوطنيين، والذين يدركون حجم الأمر المخيف والمحزن الذي قد يعقب نجاح الثورة.
هذه الثورة التي بدأت عليها ألا تنام إلى أبد الآبدين، حتى تعيد صياغة الواقع، وهى عملية قاسية جدا.
أهل السلطة يعلمون أنهم قد يتركون مناصبهم، لكنهم لا يتركون مكاسبهم، ولديهم من يحميهم على تأكيدها ووضعها في أيديهم وحراستها.
نحن سعداء لأننا نفضنا الدهن من على أجسادنا. الرقصة كانت عنيفة وأخرجت كل السأم والملالة والعرق المتكدس فى أجسادنا، وماذا بعد؟
يجب ألا نهدأ.
هناك فارق بين تغيير الوجوه وتغيير المجتمع من جذوره، وإلا يبقى ما عملناش حاجة، من أول محصل فاتورة الكهرباء، إلى مسؤول تراخيص التوك توك، إلى المسؤول عن صياغة التجارة الداخلية ويقسم الكعكة مع كبار المستوردين التجار.
مافيا يجب فكها.
القضية ليست إقصاء حسني مبارك، الرجل يسهل عليه الرحيل، لديه ثروته وسيعيش في سلام وأمان في مصر أو غيرها، القضية ليست الحاكم، بل قضية طبقة مازالت مسيطرة.
الطغمة التي هبطت علينا
عندي اعتقاد أن جيلي تسلم مصر أفضل كثيرا مما نتركها الآن للأجيال المقبلة.
تسلمناها أفضل، ولم نكن راضين عن أن نتركها بهذه السلبية وهذا الإحساس بالقهر الذل والمهانة، وعلى هذا القدر من الفساد والرشوة والمحسوبية وإهانة الصادقين والشرفاء، وإذلال أصحاب المباديء والسخرية منهم، وخفوت كلمة الوطن واندثارها تقريبا، حتى أصبحت شيئا مضحكا حين تذكرها أمام الأجيال الجديدة.
هذا التمزق بالنسبة للشباب والرغبة في الغرق في البحار من أجل الخروج من هذا البلد، وحين يقول «البلد» يقولونها بكراهية واحتقار، وكأنها فخ.
وهذا الإحساس بأنه لا مستقبل لأحد وأن أي تيار سياسي يمكن أن يدخل ويفسد عقول الشباب، وإنه يتعلم بدون رغبة فاقدا للحماس، لأنه يعلم أنه لا وظيفة ولا مستقبل ولا مسكن، لا يحلم بأطفال، لا يجرؤ على الحلم.
هذه ليست مصر.
مصر أجمل وعظم بكثير من هذه الطغمة التي هبطت علينا بالمظلات، وامتصت دم مصر واستولت على كل ما فيها، حتى الصحراء، لم يعد لنا فيها حفنة رمل، استولى عليها وأقيمت عليها مدن وباعوها لنا، ثم حاصروا المدن بكل تلك العشوائيات التي ظهر أثرها خلال فترة الثورة.
لقد قمنا بالثورة، ويجب أن ننتشر في المجتمع كله لجمع الناس على فكرة الثورة، ولا يجب أن ننعزل بميداننا عن الميدان الأكبر.
الشاعر في قبضة اليأس
لا شك أن ثمة ظلال يأس كانت قد بدأت تنتشر فى صدورنا وتوجهاتنا وفكرنا.
يذكر الناس لي أنني في دامس ظلام النكسة بشرت بالنهار، «أبدا بلدنا ليل نهار بتحب موال النهار».
وكنت قوي جداً، لم يكن كلام شاعر أو حلمه، بل على أساس مفردات حقيقية موجودة في الواقع. تعلم أنني عشت في السويس، وحضرت السد العالي، وكان عندي أن الشعب المصري لا يمكن أن يسمح بأن يظل مهزوما طويلا، وأنه لا بد من صبح قادم يزيل ظلام النكسة. إحساس مبنى على جزئيات صغيرة ودقيقة ربما أنا كمواطن لو تسألني لا أستطيع تجميعها، لكن أنت تعرف أن الشاعر بداخلنا أو الفنان داخل الروائي فإن المبدع يرى الأشياء بما يتجاوزه شخصيا ويتجاوز فكره وأحلامه.
في الواقع الأمر طال هذه المرة، ويسألني الناس أنت الذي تزرع الأمل، قلت لم يعد لدى طاقة لزرع الأمل، يئست. كنت أقولها. كنت أشعر أن أولاد أولادي لن يروا هذا اليوم، لأن الفساد كان دق أوتاد خيمته في كافة أرجاء الأرض المصرية، أفسد الجهاز الوظيفي.
من الندرة أن تجد إنسانا شريفا، بحيث يجرى اضطهاده، من هو شريف يضطهد لأنه عين على غير الشرفاء الذين يملأون الأرض. لي أصدقاء اضطهدوا وجاءوا قعدوا هنا جنبي. لم يجدوا مفرا من أن يستقيلوا، يئسوا.
لم نشاهد ذلك في الملكية ولا أيام عبد الناصر طبعا، ولا أيام السادات.
السادات هو الذي بدأ الانفتاح الاقتصادي وبدأ في دق أوتاد هذه الخيمة، لكن لأنه رحل سريعا لم نر البدايات التي زرعها السادات تؤتى ثمارها إلا في العهد التالي.
زمان وسحر زمان
في زمن ناصر لم يحاكم أحد بتهمة الفساد، ولا سمعنا أن أحدهم سرق مالا عاما، ولا أثرى من وراء وضعه السياسي، ومات ناصر مديونًا بأقساط الفيللا التي بناها لبنته لتتزوج فيها، وهم أعضاء مجلس قيادة الثورة لولا أن أعطيت لهم قطعة أرض ليبنوا فيها بيتا لوجدناهم معنا على الرصيف.
مرة قالوا إن فلانا سافر إلى روسيا وعاد بطائرة مليئة بالكاميرات، ولما تم التحقيق اكتشفوا إن الرجل اشترى 3 كاميرات، وأنا لما سافرت جبت أكتر من كدا لأن الكاميرا كانت ببلاش.
وطلعوا عليهم شائعات أنهم بددوا ثروات الملك، ولك هذا كلام للإساءة فقط، ناصر ورجاله بنوا مصر وتحدوا الأزمة والقوى الكبرى، بنوا السد العالي يا راجل عبر معارك تكسر الجبابرة.
ومع ذلك كان يحس أن وراءه 30 مليون اللي هو احنا، نختلف معه وندخل السجن، بس معاه في معاركه، وكان اختلافنا أنه يقود هذا النضال بنفسه، ولا يشركنا فيه، يروح يحقق النصر وهو مكتفنا، ونحن مكبلون بالقيود، لم تكن هناك ديمقراطية، وأجهزته البوليسية تطاردنا. لكن كان يقود معاركه ضد الاستعمار والإمبريالية والإقطاع والرأسمالية، ويأتي لينقلنا إلى الأمام ونحن مكبلون. لذلك ما إن رحل عبد الناصر حتى ضغط السادات على الزرار ليغير العالم كله، لم يكن هناك حراس يحمون تجربة عبد الناصر إلا في الفكر، لكن لم يكن له رجال في الأرض بالمعنى العملي. ولذلك التجربة الناصرية لم تصمد كثيرا.
عن «الشروق» المصرية
شاعر مصري
تمنيت المشاركة في مظاهرة أو حدث كما أتمنى الآن.
كتبت قصيدة «الميدان» يوم جمعة الغضب، وبيضتها السبت. الشاعر والمواطن ومثلي مثل الجميع، عشنا حياتنا كلها لكي نرى يوما مشابها. قلت يوما في قصيدة:
خايف أموت
من غير ما أشوف
تغير الوشوش
وتغير الصنوف
والمحدوفين ورا
متبسمين في أول الصفوف
أعرف مناضلين عظاما أمضوا حياتهم في السجن وتعبوا وماتوا فقراء ولم يحققوا شيئا، ولم يشاهدوا معنا هذا اليوم:
خايف أموت وتموت معايا الفكرة
لا ينتصر كل اللي حبيته
ولا ينهزم كل اللي كنت أكره
أتخيلوا الحسرة!
حسرة أولئك الذين أضاعوا حياتهم بلا طائل في السجون والقهر، مناضلون شرفاء ونبلاء قابلتهم في السجن، ولم يحققوا شيئا سوى أننا استمعنا إليهم، كما أن غيرنا استمع إلينا أيضا.
أنا في شيخوختي الآن أعيش أسعد أيامي، وهؤلاء الشباب أعطوني هدية لا تقدر بثمن. وقصيدتي «الميدان» نوع من رد الجميل الضئيل جدا لما أعطوه لنا فكريا ونفسيا وروحيا، اسمح لي من خلال «الشروق» أشكرهم.
1- ضحكت علينا الكتب
وبيسرقوك يا الوطن قدامنا عيني عينك
ينده بقوة الوطن ويقول لي قوم فينك
ضحكت علينا الكتب بعدت بينا عنك
لولا ولادنا اللي قاموا يسددوا دينك
حرية الكاتب يخلقها بنفسه.
فى زمن ناصر سجنت مع جيل الستينيات، لكن أنا دائما أفرق بين الذاتي والموضوعي بين الخاص والعام، لكن سجني لا يعميني، لأن الهدف دائما مصر، عيني على مصر وليس على عبدالرحمن الأبنودي ولا غيره. كلنا أفراد، والتاريخ لن يذكر هذه التفاصيل، سيرميها، لا أدين سجني، ولم أكن مخطئا.
كان عبد الناصر فوقيا، وكان كل همنا نجره إلى تحت. وكان بيننا وبينه أجهزة عازلة، وكان كل همنا أن تزاح هذه الأجهزة، بحيث لا تمشى ووراءك مخبر اليوم كله.
أنا وطني، لما تسجني، أمال حتسيب مين؟
قرأنا الكتب، ونعرف أن الثورة لا تقوم إلا من خلال تنظيم قوي، مرتبط ارتباطا بالجماهير، ومتغلغل في الواقع...إلخ.
هذه هي الكتب.
هذا ما قاله لينين ومن مشينا وراءهم، ثم اكتشفنا فيما بعد أن الناس تمزع هدومها، يفيض بيها فتثور من غير حزب ولا حسنين.
2- طوفان يولد في السر
الثورة فيضان قديم محبوس ما شافوش زول
الثورة لو جد ما تبانش فى كلام أو قول
تحلب وتعجن فى سرية تفور فى القلب
وتنغزل فتلة فتلة في ضمير النول
فى السنوات الأخيرة لاحظنا ذبول الأحزاب. كل حزب تحول إلى شخص وجريدة، وعلاقات مع الدولة مريبة سرية وعلنية، وانخراط في أجهزة الدولة، إلى أن بزغ هذا.
الشباب كانوا يراقبون الحالة، ولو كان هناك أحزاب حقيقية كان الشباب انخرط فيها، لكن الشباب الذي بقى على قيد الوعي والحيوية، انصرف عن الأحزاب وانخرط في 6 أبريل وكفاية والحملات الشعبية الأخرى.
إنهم شباب بلا لافتات سياسية.
دي حاجة جميلة، لكن قد نخاف أن ينفصلوا عن تجارب الماضي، العواجيز مش دايما وحشين ومعوقين، ولكن لديهم تكدس خبرات أيضا، أنا واحد من هؤلاء القدامى وأتعاطف مع الشباب كأني واحد منهم، السؤال هو هل هناك ثمة قدرة للأجيال القديمة للانخراط في هذا الحماس الطازج؟
أعتقد أن مشكلة الجيل السابق هي في كم الضربات واليأس والخلافات والفراغ وعدم الإمساك بحقائق الواقع.
3- إزاي نحب الوطن
إحنا وراهم أساتذة خايبة تتعلم
إزاي نحب الوطن وامتى نتكلم
لما طال الصدى قلبنا ويأسنا من فتحه
قلب الوطن قبلكم كان خاوي ومضلم
هذا درس أربك القوانين الثابتة في رؤوسنا والأفكار التي تكلست والواقع يتغير ونحن لا نطور ما تعلمناه.
تجربة تونس هي تقريبا نفس التجربة المصرية من حيث اللا-قانون، الناس قامت لأه، ما نعرفش امتى تقوم تقول لأه: لقمة وقفت في زورها، كلمة ما رضيتش تتبلع، شيء حصل والناس قالت لأ.
شاب صغير قتل في القصاصين، رحت بلدة القصاصين دي أنا وعمك سيد الضوى، وقلنا مع الناس السيرة الهلالية، أنا معروف يى تونس وعارف بلدهم ولهجتهم، لأني عشت أوقاتا طويلة هناك. لكنني لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن الإنسان التونسي، المهروس من الممكن أن تدب فيه الحياة مرة أخرى.
أملي بالنسبة لمصر كان فيه إمكانية إن الإنسان المصري يثور، المصري برقدته التي تشبه رقدة الجمل. لكن التونسي كان مسحوقا، لم يتركوا له فرصة للتنفس.
احنا كنا نغيب ونهب هبة كدا، يناير 1977، الأمن المركزي، صحف معارضة، وقوف على سلم النقابة، إنما فى تونس أبدا، لم يسمحوا للإنسان التونسي بهذا أبدا. لكن في السنوات الأخيرة لاحظت أن الناس بقت «مستبيعة»، لم تعد تلتفت خلفها، المثقفون بدأت تدب فيهم روح قتال عجيبة.
فجأة تحول التراكم الكمي إلى كيفي كما نعرف.
4- شباب بلا لافتات
شباب كان الميدان أهله وعنوانه
ولا في الميدان نسكافيه ولا كابتشينو
خدوده عرفوا جمال النوم على الأسفلت
والموت عارفهم قوى وهما عارفينه
كنا فقدنا الأمل في شباب مصر.
أمريكا تحاول أن تصوغ أبناء الشعوب على هوى الغرب لتجعل منهم مادة قابلة للتحريك والتجاوز، تعبث بهم عبثا شديدا. قطاعات كبيرة تستخدم الإنترنت والفيسبوك، ولكن لا ترى ما يحدث فى مصر الآن، منصرفة إلى أفلام وكرة ومسابقات، ودول سينضمون إلى الشباب الذي يقود الآن.
في ثورة 1919 كان هناك شباب، لكن الكبار كانوا يقودون، أما الآن فالكبار يبحثون عن منفذ يدخلون منه للاستيلاء على ثورة الشباب.
الشباب صادق جدا فى ثورته، وقابل للتضحية، وأنت تراهم مصابين اللي رابط عينه، والمكسور ذراعه، بضمادات بدائية في داخل الميدان، لكن تجد صاحب هذه الضمادة يحمل كيس قمامة وينظف الميدان باليد الأخرى.
ثمة شيء جميل يعبر عن الروح المصرية الحقيقية اللي طول عمرنا تغنى بها وكأننا بلهاء، لأن الناس لا تجدها فى الواقع، بالذات الأجيال الجديدة.
لقد جاء الشباب إلى العالم ومصر علاقتها بالعدو أقوى
رأيت أجيالا رافضة لسلطاتها وحكوماتها ومستوعبة وتعرف أنها ليست بمفردها في الثورة أو الميدان، دعني أتحدث عن الميدان باعتباره الثورة، رغم وجود «ميدان تحرير» في كل مدينة مصرية تقريبا.
أخاف عليهم لأنهم بلا لافتات سياسية، أخاف طبعا، لكنني أرى أنهم مبصرون، واثق من ذلك.
لا أخاف على شباب التحرير، ولا يمكن للنظام أن يعتدي عليهم، فالدنيا كلها تعرف ماذا يدور في ميدان التحرير، العالم كله معنا، ويتابع ليرى ماذا سيحدث?.
5- «عواجيز» وأحزاب
فينك يا صبح الكرامة لما البشر هانوا
وأهل مصر الأصيلة، اتخانوا واتهانوا
بنشترى العزة تاني والتمن غالي
فتح الوطن للجميع قلبوا وأحضانه
يأتي بعد ذلك عواجيز الفرح، أمثالنا الذين ناضلوا كثيرا ولم يفلحوا، واضح أن هناك محاولة للقفز على الظاهرة والبحث عن مكان، وليته مكان للتعلم وللتسول واستحلاب روح الشباب، لأ، دا أنت تريد أن تفرض عليهم «عجَزك»، كهولتك الفكرية، أمثالنا وأمثال الإخوان، أولئك الذين لم يجدوا بابا للدخول إلى واقع السياسة العلني، وجدوها فرصة في هذا المكان.
من الذي ذهب للتفاهم مع الدولة؟
إنها القوى القديمة، والمعارضة التقليدية اللي جابوا لنا الكافية، واللي أبطلوا النضال الحقيقى.
لأن النضالات القديمة قامت على كراهية الآخر، الإخوان يكرهون التقدميين، والتقدميون يكرهونهم.
أيام ثورة فيتنام، كان البوذي المتدين يحرق نفسه في الميدان دفاعا عن ثورة هي شيوعية، الحزب الشيوعي كان يقود، لكن كان هناك تحالف عجيب بين الدين والتقدمية وكافة القوى المختلفة فكريا، لكن الكل متوحد على حب الوطن.
المعارضة القديمة هنا ليست كذلك، الإخوان أو الشيوعيون أو الناصريون، كل هذه الفرق في حالة رفض للآخر، لكن الشباب ليسوا كذلك، لأنهم ما عندهمش تنظيمات ولا لوائح وخط سياسي يجبر كل واحد إنه يهرش مناخيره من هذا الجانب وليس من الجانب الآخر، تجده كل من معي فهو معي حتى يفرز الواقع من الباقي بجواري، ومن سينصرف أو يُهزم.
حتى من ذهب للتفاوض مع الدولة، الشباب يقولون إن هؤلاء لا يعبرون عنا ولا يمثلوننا، لا يرفضون فكرة أن يذهب آخرون للتفاوض، ولا يمارسون العداء ضدهم.
هم يعرفون أنها أحزاب مأزومة، وما صدقت تلاقي فرصة تقول إنه على قيد الحياة، لكن من هم على قيد الحياة لم يغادروا ميدانهم.
6- مناورات النظام
قلنا فيه لسه الجولة ورا جولة
دا سوس بينخر يا ابويا في جسد دولة
ايوة الملك صار كتابة انما ابدا
لو غفلت عنينا لحظة يقلبوا العملة
الدولة ترتعد من هذه الظاهرة الحقيقية، لكنها تحاول الالتفاف عليها.
أولا: يلعبون لعبة الوقت، بإطالة مدة التحاور والتناوش ممكن الناس تتعب وتنصرف.
النظام يحاول أن يضرب الناس بالناس، بالرشوة والأساليب التي كان يدير بها الانتخابات السابقة.
ثانيا: فكرة الاختراعات القانونية والتشريعية في كل لحظة ليثبتوا أنهم لن يغادروا.
ثالثا إذا غادر الرئيس كيف ستذهب هذه الطبقة الدهنية، وكل هذه الفئات التي تكسو مصر، إداريا وتشريعيا إلخ، كيف نتخلص منهم أو نغيرهم؟
لقد أفسدوا كل شيء، والآن تجد من يقول إن الناس تعبت، وعلى سكان الميدان أن يغادروا لكي ترى الناس مصالحها. مازال الإعلام في يد الدولة، وهناك حالة من الالتفاف والتحايل، وقدامى النظام أذكياء وخبراء في المداورة والمناورة، أصبحوا خبراء. وهم يفصصون الآن الدستور، اكتشفنا أنهم ليس فقط أذكياء، دا شغل شياطين. كيف أحكموا القبضة بحيث إنه لا يمكن فكهم، ولا فك السلاسل التشريعية والقانونية التي عملوها من زمن.
مش يرحل مبارك يبقى القضية خلصت، ولا استقالة جمال مبارك وصفوت الشريف. تلك تفاصيل تلهينا عن الأهم، هناك طبقة كاملة، وليس معنى التحقيق مع أربعة أو خمسة من المسئولين السابقين أنك تنظف الطبقة من فسادها، فالفساد لا يخص بعض الوزراء، بل فساد النظام السياسي من أوله لآخره.
ثم إنك لا تملك الجيش المنظم لتحقيق ذلك، نرجع لقضية الحزب السياسي. ليس لديك ذلك الحزب الجماهيري المنظم المقاتل الذي يستطيع أن يقتلع هذه الطبقة من جذورها.
7- الخطر الكبير جدا
ما تخافش على مصر يابا مصر محروسة
حتى من التهمة دي اللي فينا مدسوسة
ولو انت ابوها بصحيح وخايف عليها قوى
تركتها ليه بدن بتنخره السوسة
في النهاية جهاز البوليس كله، الأجهزة الأمنية مش بتاعتك، مش انت اللي عاملها، ولا من نظم كل هذه القوى ضد الناس، أنت الآن الناس، وتريد أن تستعيد حقك، وبينك وبين حقك كل هؤلاء.
وكل ما استولوا عليه، هل يمكن أن تستردها؟ وما القوة التي تمتلكها باسترداد مدينتي ومارينا ودارينا وسارينا؟
نسأل الكتب أم ميدان التحرير؟.
لا الميدان ولا الكتب، بل يجب أن يجلس ثوار الميدان مع قدامى الوطنيين والمخلصين منهم والوطنيين، والذين يدركون حجم الأمر المخيف والمحزن الذي قد يعقب نجاح الثورة.
هذه الثورة التي بدأت عليها ألا تنام إلى أبد الآبدين، حتى تعيد صياغة الواقع، وهى عملية قاسية جدا.
أهل السلطة يعلمون أنهم قد يتركون مناصبهم، لكنهم لا يتركون مكاسبهم، ولديهم من يحميهم على تأكيدها ووضعها في أيديهم وحراستها.
نحن سعداء لأننا نفضنا الدهن من على أجسادنا. الرقصة كانت عنيفة وأخرجت كل السأم والملالة والعرق المتكدس فى أجسادنا، وماذا بعد؟
يجب ألا نهدأ.
هناك فارق بين تغيير الوجوه وتغيير المجتمع من جذوره، وإلا يبقى ما عملناش حاجة، من أول محصل فاتورة الكهرباء، إلى مسؤول تراخيص التوك توك، إلى المسؤول عن صياغة التجارة الداخلية ويقسم الكعكة مع كبار المستوردين التجار.
مافيا يجب فكها.
القضية ليست إقصاء حسني مبارك، الرجل يسهل عليه الرحيل، لديه ثروته وسيعيش في سلام وأمان في مصر أو غيرها، القضية ليست الحاكم، بل قضية طبقة مازالت مسيطرة.
الطغمة التي هبطت علينا
عندي اعتقاد أن جيلي تسلم مصر أفضل كثيرا مما نتركها الآن للأجيال المقبلة.
تسلمناها أفضل، ولم نكن راضين عن أن نتركها بهذه السلبية وهذا الإحساس بالقهر الذل والمهانة، وعلى هذا القدر من الفساد والرشوة والمحسوبية وإهانة الصادقين والشرفاء، وإذلال أصحاب المباديء والسخرية منهم، وخفوت كلمة الوطن واندثارها تقريبا، حتى أصبحت شيئا مضحكا حين تذكرها أمام الأجيال الجديدة.
هذا التمزق بالنسبة للشباب والرغبة في الغرق في البحار من أجل الخروج من هذا البلد، وحين يقول «البلد» يقولونها بكراهية واحتقار، وكأنها فخ.
وهذا الإحساس بأنه لا مستقبل لأحد وأن أي تيار سياسي يمكن أن يدخل ويفسد عقول الشباب، وإنه يتعلم بدون رغبة فاقدا للحماس، لأنه يعلم أنه لا وظيفة ولا مستقبل ولا مسكن، لا يحلم بأطفال، لا يجرؤ على الحلم.
هذه ليست مصر.
مصر أجمل وعظم بكثير من هذه الطغمة التي هبطت علينا بالمظلات، وامتصت دم مصر واستولت على كل ما فيها، حتى الصحراء، لم يعد لنا فيها حفنة رمل، استولى عليها وأقيمت عليها مدن وباعوها لنا، ثم حاصروا المدن بكل تلك العشوائيات التي ظهر أثرها خلال فترة الثورة.
لقد قمنا بالثورة، ويجب أن ننتشر في المجتمع كله لجمع الناس على فكرة الثورة، ولا يجب أن ننعزل بميداننا عن الميدان الأكبر.
الشاعر في قبضة اليأس
لا شك أن ثمة ظلال يأس كانت قد بدأت تنتشر فى صدورنا وتوجهاتنا وفكرنا.
يذكر الناس لي أنني في دامس ظلام النكسة بشرت بالنهار، «أبدا بلدنا ليل نهار بتحب موال النهار».
وكنت قوي جداً، لم يكن كلام شاعر أو حلمه، بل على أساس مفردات حقيقية موجودة في الواقع. تعلم أنني عشت في السويس، وحضرت السد العالي، وكان عندي أن الشعب المصري لا يمكن أن يسمح بأن يظل مهزوما طويلا، وأنه لا بد من صبح قادم يزيل ظلام النكسة. إحساس مبنى على جزئيات صغيرة ودقيقة ربما أنا كمواطن لو تسألني لا أستطيع تجميعها، لكن أنت تعرف أن الشاعر بداخلنا أو الفنان داخل الروائي فإن المبدع يرى الأشياء بما يتجاوزه شخصيا ويتجاوز فكره وأحلامه.
في الواقع الأمر طال هذه المرة، ويسألني الناس أنت الذي تزرع الأمل، قلت لم يعد لدى طاقة لزرع الأمل، يئست. كنت أقولها. كنت أشعر أن أولاد أولادي لن يروا هذا اليوم، لأن الفساد كان دق أوتاد خيمته في كافة أرجاء الأرض المصرية، أفسد الجهاز الوظيفي.
من الندرة أن تجد إنسانا شريفا، بحيث يجرى اضطهاده، من هو شريف يضطهد لأنه عين على غير الشرفاء الذين يملأون الأرض. لي أصدقاء اضطهدوا وجاءوا قعدوا هنا جنبي. لم يجدوا مفرا من أن يستقيلوا، يئسوا.
لم نشاهد ذلك في الملكية ولا أيام عبد الناصر طبعا، ولا أيام السادات.
السادات هو الذي بدأ الانفتاح الاقتصادي وبدأ في دق أوتاد هذه الخيمة، لكن لأنه رحل سريعا لم نر البدايات التي زرعها السادات تؤتى ثمارها إلا في العهد التالي.
زمان وسحر زمان
في زمن ناصر لم يحاكم أحد بتهمة الفساد، ولا سمعنا أن أحدهم سرق مالا عاما، ولا أثرى من وراء وضعه السياسي، ومات ناصر مديونًا بأقساط الفيللا التي بناها لبنته لتتزوج فيها، وهم أعضاء مجلس قيادة الثورة لولا أن أعطيت لهم قطعة أرض ليبنوا فيها بيتا لوجدناهم معنا على الرصيف.
مرة قالوا إن فلانا سافر إلى روسيا وعاد بطائرة مليئة بالكاميرات، ولما تم التحقيق اكتشفوا إن الرجل اشترى 3 كاميرات، وأنا لما سافرت جبت أكتر من كدا لأن الكاميرا كانت ببلاش.
وطلعوا عليهم شائعات أنهم بددوا ثروات الملك، ولك هذا كلام للإساءة فقط، ناصر ورجاله بنوا مصر وتحدوا الأزمة والقوى الكبرى، بنوا السد العالي يا راجل عبر معارك تكسر الجبابرة.
ومع ذلك كان يحس أن وراءه 30 مليون اللي هو احنا، نختلف معه وندخل السجن، بس معاه في معاركه، وكان اختلافنا أنه يقود هذا النضال بنفسه، ولا يشركنا فيه، يروح يحقق النصر وهو مكتفنا، ونحن مكبلون بالقيود، لم تكن هناك ديمقراطية، وأجهزته البوليسية تطاردنا. لكن كان يقود معاركه ضد الاستعمار والإمبريالية والإقطاع والرأسمالية، ويأتي لينقلنا إلى الأمام ونحن مكبلون. لذلك ما إن رحل عبد الناصر حتى ضغط السادات على الزرار ليغير العالم كله، لم يكن هناك حراس يحمون تجربة عبد الناصر إلا في الفكر، لكن لم يكن له رجال في الأرض بالمعنى العملي. ولذلك التجربة الناصرية لم تصمد كثيرا.
عن «الشروق» المصرية